mercredi 25 novembre 2015

لا تراث لمن لا حداثة له




حتى إلى زمن غير بعيد، كنت متشبثا شرسًا بمسألة التراث الغير المادي والذاكرة الجماعية وبضرورة الحفاظ عليها من التلف والنسيان وتسخير القنوات الملائمة لتنميتها وإعطائها مجالات الظهور على الحوامل والوسائط الإعلامية المعاصرة، لدرجة أن اختزل العديد صورتي بنوع من "طبَّال الحومة" أو "أمين الطبابلية"، ورغم ما تحمله هذه الصورة من الأبعاد السلبية والدونية، ما كنت لأنزعج منها وربما بالعكس كنت أشعر بكثير من السعادة والشرف أن يلتصق اسمي بهامات إبداعية شعبية ذات أبعاد خرافية.
غير أنه وخاصة بعد أحداث ديسمبر 2010/ جانفي 2011 وما انجر عنها من تغيرات ظاهريا، وأهمها حرية التعبير سرعان ما تبين أن الأمور بقيت على ما هي بالنسبة للرؤى والتصورات والفهم وتاريخ البلاد وعلاقة العباد بها وعلاقتها ببقية العالم وبالحداثة. وكان طبيعيا أن تطرح مسألة التراث الغير المادي سواء رسميا أو إعلاميا، ومع طرحها تقشع كل ذلك الضباب القديم من التبريرات التي سادت قبل 2011. مما أجبرني على إعادة النظر في عديد المسلمات خاصة وأنا بصدد جمع شتات كتاباتي المختلفة في هذا المجال قصد تأليف يتعرض بالتعريف والدرس والشرح لمجمل ما وقع الاتفاق على تسميته بالتراث الشعبي التونسي.
ومن أهم ما توقفت عليه، من خلال ملاحظات عرضية تتصل أساسا بمشاغلي المهنية السابقة – وهي هندسة الإنشاءات المعدنية- هو أن كل نشاط إنساني مهما كان نوعه وطبيعته يرضخ لقانون "التقادم" الذي يهدده بالفناء والاندثار، ولنقيضه قانون التجدد والتطوير الذي يكسبه عمرا جديدا كما يكسب ما يَـنْـتُـج عن ذلك النشاط البشري قيمة مضافة جديدة هي إلي تُحدد حتمية انتهاء المُنتج القديم وطرق إنتاجه وأساليبه وانقضاء صلاحية المعارف المتصلة به لتحل محله معارف جديدة محينة تتطابق والمُنتَج وينتج عن هذه المعارف معارف فرعية يتقاسمها الناس تقبلا أو نقدا أو رفضا ينتج عنها بالتأكيد تغيرات كبرى لذائقتهم.
وتبعا لهذا، يبرز جليا أن أن الحداثة هي حركة بشرية في دوافعها وفي نتائجها، وإن ما يحصل من تغيرات في أنماط الإنتاج والمنتجات ليست سوى تظاهراتها الخارجية  للتعبير عن المرور من نمط إنتاج تقليدي يفقد طاقة مقاومة التقادم، إلى نمط إنتاج حديث يحمل طاقات جديدة للتحيين والدوام النسبي.
وبطبيعة الحال لا تمر هذه العملية دون صراع بين دعاة النمط القديم والنمط الجديد، صراع يدوم ما يقتضيه انتشار المعارف الجديدة أو المحينة بين الناس منتجين للمنتج أو مستعملين كانوا أو مستهلكين.
 ولإن انحصرت عملية التحديث في الأزمنة القديمة – أي ما قبل التنوير وتحرر العقل البشري من الخرافة- بين سلالات من الحرفيين يتوارثون أسرار المنتجات (المادية وغير المادية) وطرق الإنتاج الشيء الذي حال دون انتشار المعارف بين الناس وخاصة منع من تداولها بحرية فكر نقدي، فإن مرحلة ما بعد التنوير مكّنت تحويل المعارف من باب المحفوظ والمنسوخ والحاكي إلى باب المشروح والمعلل والمحسوب بمختلف القواعد الفيزيائية والرياضية والبيولوجية إضافة إلى ما برع فيه الرسامون من استعادة لخصائص الأشياء والأحياء والجماد والأصوات ومختلف الظواهر.
ولعل انتشار المعارف طباعة وتدريسا وتدوينا ونقدا هو ما ساهم في تسارع نسق التحديث وتطوره بتحرر الفكر البشري التجريبي بعد أن تحرر من القيود الدينية  على امتداد قرون من الصراعات مع قوى الكنيسة وكهنوتها.

يتبع

jeudi 19 novembre 2015

ريحة السخاب (11)




دار الغانمي


سي عبد الواحد، من اللي صارت إلّآ قمر مرته الدوام لله، توة أكثر من عشرين عام، وخلآتله ولده الصغير في قماطته، وبرغم اللي ما زال في عتاوته وصحته، نحَّى من باله أنه يعاود ياخذ مرى برغم إلحاح الدائرة متاعه من أخواته النساء والرجال، وبرغم ما كان يحتاجه لحد يقوم بيه وبداره وبصغاره. لا محالة ولده محمود راجل وقتها، وبنته بهيجة صبية تحظ الزواج، لكن الولفة والعشرة اللي كانت بينه وبين إلآ قمر ما خلآت حتَّى مرى تنجم تستملك بقلبه وبمشاعره. صبر وتحمّل وكان هو البو وهو الأم لعزُّوز. وكيف ما كبروا محمود وبهيجة بين أحضان مرضعتهم سليمة الدويرية، كبر عزّوز بين أحضانها ومن حليب مرضعة دويرية أخرى تاوزِّينت اللي بدورها باش تكبر أولاد وبنات سي محمود...
عزّوز برغم حرمانه من الأم يلقى روحه تتلاقفه اليدين في صغره، تاوزِّ ينت في النهار وبهيجة في الليل كاركة عليه كي الدجاجة على فلالسها حتى لين عرّس سي محمود ولقى عند مرت خوه، إلآ زكية الأم الثالثة.
موت الآ قمر بعثر العائلة وعطى لمجراها مجرى جديد، بهيجة اللي كانت حنتها في الأقدام وسعدها لقدَّام لقات روحها قايمة بالدّار وبرجال الدار بوها وسيدي خوها محمود وبغشيريتيم. كبرت قبل الكـُبر ونقـّر الشيب في خصلات شعرها بدات تذبال وتكساح وكايني تبعت ثنية بوها وسكرت البيبان والشبابك على القلب وحاجة اسمها المحبة والعرس وزيد ما عندها مع اشكون تحل هالمستوج وتاخذ وتعطي فيه.
سي محمود حسْ بروحه يلزم يوللي هو السند متاع الوالد، غطس بالجهد والمعين الله في الشـّغـُلْ، سوق الكتبية من شيرة، محل التسفير والورق من شيرة أخرى وزاد دخل في الدربز متاع المطبعة وما تابعها، وما عرّس كان كي نهار سي عبد الواحد فرّك معاه الرمانة، وورّاله ثنية صبية من كـُون المرحومة إلآ قمر، وزاد نش عليه امحمّد اللي يعرفه عنده تأثير كبير عليه، وهكَّاكة عرّس بالآ زكية بعد ثلاثة والا أربع سنين من موت المرحومة.
عزُّوز، بعد الكتاب دخل للمدرسة القرآنية موش بعيد على دارهم في نهج الكنز. قراية في وسط العام، ومحل واحد من اخواله في فندق الحرايرية في نهج تربة الباي فين تحلت عينيه على الأنوال وتعمير قنانط الأنزاق وتحضير النيرة ، ونشران خجالي الحرير بعد صبيغتهم، لين وللى يفرز في انواع الحرير والطوبار وأنواع النسيج التونسي والمهدوي والصفاقسي والجربي والبربوشي والبسكري...
قرى وجاب منه ربي وحفظ الستين وعاود وتقدم للدخول للجامع الأعظم ونجح من الأوائل وعدَّى ثلاث سنين في الفرع اليوسفي حتى لين خذا الأهلية، أمَّا مهجته ما كانتش متجهة للمشيخة والتحصيل، زيد بحكم المعارف اللي تعرّف عليهم في فندق الحرايرية من صنايعية الجبة والبرنوس والصداره كمّل تعلم البشمار في سوق الدزيرية لين ولآوا يتخاطفوا فيه القلفاوات من نباهته ومخه المتيقظ في المنسوج من شيرة والحروجات وزينتهم من شيرة أخرى. ثلاثة سنين بعد الأهلية وللى عزُّوز قلفة لاترد له كلمة في صنعة النسيج وفي البشمار...
برغم اللي سي عبد الواحد  يعتبر الفرع متاع عائلته أب عن جد من أهل المعرفة والقلم، حتى إذا كان مشهود ليهم في الفلاحة والعود والأرض، ما تصورش أنه نهار من النهارات باش يخلف واحد من أولاده قلفة في سوق الدزيرية دايرين بيه كمشة زغزغ يخالفوا في خيوط الطوبار والحرير. بالنسبة ليه مهما كانت الصنائع محترمة وعندها قيمة أمَّا ما هيش متاعهم... ما بين رغبة هالطفل اللي تحرم من حنان الأم وما لقاه من إحاطة من خاله اللي سلمله محل ليه بشغله وأنواله كنوع من الورثة باسم أمه، وما صارله من إسم وسمعة في سوق الدزيرية وصنعة البشمار في حاضرة تونس لبر القبلة والا في ردايد فريقا اللي مغرومين بالقشابية والبرنوس، سي محمود لقى روحه كيف اللي مغلوب على أمره وفي نفس الوقت كيف اللي عاجبته هالحكاية خصوصي كيف يتفكر اللي عزُّوز هو اللي خللى الدار كل صباح تصبح زاهية بتسلسيل المقنين والجغل والكانالوات اللي قفصاتهم مرشقين على حيوط الدار والعلي...
عزُّوز لقى ثنيته بروحه واختارها من غير ما يرغمه عليها حد وعمره ما يعمل حاجة من غير ما ياخذ المشورة من عند السيد الوالد، والسيد الوالد باذن الله عمره ما نجّم نهار يكسرله خاطره والآ يقول له لآ هاذا موش متاعنا والا ما يخرجش علينا.
عزُّوز ماهوش العظمة الحارمة في دار الغانمي، ولا هو الثور الأبلق اللي يجلبلها العار، عزُّوز عبارة على عنقود عنب أحمر ظهر شامة على جنب مولود جديد، تزيد تحمار وقت ما يجي موسم عنب بزول خادم...
صحيح تربّى وكبر في الدار مع أخته بهيجة وتاوزِّينت وزكية مرت خوه، برشة أنوثة ودلال أمَّا شخصيته صهرتها خلطة الصنايعية وشيطنتهم واكتشف عالم القلفاوات وغرام التكارلية ومحابس الحبق والقرنفل و نغمات العصافر والغناء الشوارعي والزندالي وربوخات مزاودية المركاض وراس الدرب وريق بطاحي سيدي منصور وكوارجية الافريقي، وتحلت عينيه على السينيما وافلام الحمراء والسيني صوار والميدي مينوي. هاذا الكل زادله في شخصيته اللي تشبعت بما قراه على مشايخ الفرع اليوسفي وما اكتشفه من عرص الكتب والمخطوطات القديمة اللي تملآت بيهم مرافع مقصورة السيد الوالد.



mardi 3 novembre 2015

من الذاكرة الجماعية: معركة التوامة(1915)




من معارك ثورة الجنوب التونسي 1915(المنسية) والتي يمر عليها هذه الأيام قرن، معركة شهيرة  بطلها ضو ين ضيف الله من فرسان اولاد شهيدة (قلعة اولاد شهيدة)، هي معركة التوامة أو معركة طويل الحلآب أوالمرزيزية. هذه المعركة وضعت وجها لوجه عقدا (فرقة من خمسين خيالي من الصبايحية) قبالة ضو بن ضيف الله وخاله الربودي وفارس ليبي كانوا أغاروا على عددا من الإبل في التراب العسكري بالجنوب التونسي وساقوها للتراب الليبي حيث كانوا مع سربات خليفة بن عسكر يقاومون الطليان.
كانت القوات الفرنسية تتبع تحركات بن ضيف الله بمساعدة دليل ماهر في اقتفاء أثار الخطى، فأرسلت في مطاردتهم عقدا من المخازنية النونسيين لمهاجمتهم واسترجاع الإبل، فكتنت الواقعة التي وثقها الشاعر الشعبي محمد بورخيص الدغاري في هذه القصيدة.

عقد المخزن ناض بكله ما ندري ڤداش[i]
لحقوا ضنوة بن ضيف الله ورجعوا منها عطاش
***
عقد المخزن والطوشامة عسَّاسين البير
وقف يلقى الجُرَّه قدَّامه جيَّاشة وبعير
وطق الضَّامن بالنجَّامة وكبسوا حلق الدِّير
ناض العقد وناض غمامه دار اللغط زرير
وهوضَه على هوكـَه حوَّلمه في جوبة وسرير
تلاقوا في بنت الرزَّامه وصار نهار كبير
وين الهُوش كبر غرامه ووين نغَق الطير
وثمَّه كثح طويل القامه وخدم المنقاش
وهَز اللي كاتب في زمامه ولآخر ما قلآش
***
عقد المخزن والقومية لحقوا قطـَّارين
والتمُّوا قذَأش ان فيه جملوا الطاشمتين
ولحقوهم وهية ضحوية ستَّة وثلاثين
قدا عرف الطلحة ووديّه وين القافلتين
وفي مزازات المرزيزية طاحوا يمولى الدين
شهيدي والأم شهيدية وارد م الأصليين
لحقتهم جردة وسرية وهوما ترَّاسين
ونصبوا نوبة عصمليه ما بين الصفِّين
تتفرّج بنت العوفية
تتفرج بنت العوفيه تحكر سود العين
وثمه فرقوا فلوس الديه ولوا مقهورين
وبملاجاة الروح الحيه نطحوا نطح اكباش
واللي وعده في الحربيه لقاها حاضر باش
***
الااجله في الحربي وزراره من ناض البارود
بين السائق والقطاره في سافي المجـرود
غادي م الازرق وقفاره قـبلة ام الـدود
لا حــذاهـــم حــفـــه لا قــــــاره لا قصبة جلمود
كان الموزر تسرج ناره نيشانه محرود
وتحكـم عـنهـم حكـم وزاره منين ناض التلمود
وتتفرج بنت الخواره وكان الاملاك شهود
وقف نصر العزلـوك نهـاره والثاني زغـدود
زاد خليفه العقد خياره يفعل يوم الذود
رخى صرعه وخش الكباره****عنهم ما ولاش
ويـحكولي علهـا الـقـطاره وعـيني ما راتاش
.***
يحكولي نـاس ال حضروله انا نـسـمع سمعان
جا ضــو منافـق ع الدوله شاطر في العربان
ساق بعاير وانطعـوله من واسع الالقان
نض العيط وفـزعوله من قرع الـصيعان
لز الموزر ع بزوله وحرد النيـشان
طالـب وسـياده يـرمـولـه جـوه فلان فلان
مــشــوم عـرقـوبــك وقـبــولــه هـا أمات الـحـيـران
ما هـزوا من رجال ونـزالي واطماش
وزاروا زيارتهـم مقـبولــه جت عـلى الـشـواش
***
انت غده واسماك الشومه واللي قطرك مات
بيوت ياسر منك مهدومه ووديان خليات
وما خليتي من ميتومه ذريه و بنات
وما دارت في نواجع غومه في الوقت اللي فات
ديما تطرا فيك خصومه يبدا خوذ وهات
يا سامع راس الملزومه غيري ما تلقاش
وما يتنبأ نبي في قومه فى قرن اربعطاش
***
عقد المخزن جاء متعرّي وواتى في النيشان
وصاحبهم فالح ومضرّي حصل في وين اطمان
***
عقد الطوشامة يطرى ويلمّد ويجيب
حتى مرّه قصّوا الجرة وروه جوه مشاخيب
وقفلهم منهم يتبرّى فكوني من العيب
الحربية اللي تنوشه تضرّه توقد في النيران
من صهد البرقوق وحرّه تدوي بغير لسان
***
وقت يلوح الفجر علامه مع اذان السردوك
يا سايق بنت الرزّامه دبّر هاهم جوك
قابلهم وصفن اكمامَه يا صاحب وصلوك
وجبد الحربي من حزامه وهان الرَّاس دكوك
شاوش ورفاقة قدَّامه كل واحد مهتوك
حك الذيب الجاير غامة في عقاب الدلموك
دعكه تخلـّي الراس رغامه بين هوضة وهاضوك
برشة خلّى فيهم شامه ومن قدَّاش حصان
عطبهم ونجا سقامه نجَّاه السبحان.


[i] هذه القصيدة يغنيها الفنان الشعبي محمد النصري من تطاوين
https://youtu.be/vaBoEBB3qNs