lundi 26 février 2018

هل توصلنا حقا لبناء ما يسمّى "ثقافة"؟


أعتبر أن مفهوم الثقافة وقع تداوله بصورة مُحاكاة عمَّا هو متداول في الغرب عموما وخاصة في المصطلح الفرنسي، إذ لم تكن هذه العبارة متداولة عربيا بصورة عامة وتحديدا في بلادنا في النصف الأول من القرن العشرين، إذ كان مصطلح "الحياة الفكرية والأدبية" هو المستعمل للدلالة على حركية الإنتاج المكتوب من أدب وشعر وقصة ورواية وغيرها في بداية الأمر ثم تلاها مصطلح "الحياة الفنية" مع ظهور دور العرض على النمط الغربي لمشاهد الفرجة الموسيقية والمسرحية في مرحلة أولى ، ثم فنون الرسم على المحامل والرقص والسينما وانتشارها. ولم يتم تداول مصطلح "الثقافة" بما يحمله المفهوم من معاني وأبعاد معاصرة إلا بداية من منتصف القرن العشرين وتحديدا مع استقلال البلدان العربية، بعد أن كانت تعني طيفا واسعا من المعاني ترتكز أساسا على "الحذق" و"التهذيب" و"التربية" و"التعليم". فالمصطلح المعاصر والشائع في الحضارات الغربية هو نتاج لتراكمات في مجتمع ما تعبّر عنه بعديد الظواهر ويجد فيها جماعيا وأفرادا من عناصر الهوية ما يتميز به وما يميزه عن غيره وما يشعره بالانتماء والتعريف عن ذاته كاكتمال لمكون "الدولة الوطن" حتى وإن كان فيه من العناصر ما هو مشترك نسبيا مع شعوب مجاورة.
غداة الاستقلال في تونس، لم يكن هناك من العناصر الكافية والمتطورة ما يمكن اعتباره "ثقافة"، فضلا عما سبق الاستقلال من مرحلة تعسفية طالت الحريات الأساسية بالرقابة على الصحف والمنشورات. كل ما في الأمر هو شتات من الأنشطة الموروثة عن المرحلة الاستعمارية كمدرسة تونس للرسم، والإذاعة والمعهد الرشيدي وبعض الفرق الموسيقية والنحاسية والمسرحية والنوادي الأدبية والجمعيات كالخلدونية وقدماء الصادقية وبعض الرابطات الطلابية . كل هذا لم يكن له من الوزن ما يمكنه من بناء نسيج عناصر الثقافة. الثقافة  كما نُلاحظها في البلدان الحديثة، يُستنتج أنها نسيج متعدد المكونات، مترابطة فيما بينها بأبعاد نوعية في أغراضها، وأزمنتهت، وفضائاتها اي انه بإمكانها اختزال الأزمنة وتقريب الأماكن ومزج الأنواع تتخاطب في ما بينها عبر قنوات عدة.
في السنوات الاولى من الاستقلال، وبعيد فترة قصيرة من الاستبشار بالحرية، سرعان ما زُجّت البلاد في صراع "اخوي" وضعت شقا من التونسيين وجها لوجه مع شق آخر استيقظ على إثرها عفاريت الفتن القديمة "يوسف وشدّاد" وحسينية وباشية... كانت هذه الفترة اقرب منها لتفتيق مواهب النعرات الانتهازية منها لشحذ همم أصحاب العزائم الصادقة من كتاب وشعراء ومبدعين. كانت اقرب منها لحرب مواقع للاستيلاء والسيطرة على مواقع النفوذ في ما كان يبدو مراكز "إشعاع ثقافي"(الاذاعة، مصلحة الفنون الجميلة، الموسيقى، المسرح) هذه المراكز التي ستصبح مجالات نفوذ تتحكم فيها ومن خلالها الدولة لتتحول الى مجالات توظيف سياسي. وفضلا على عدم تحركها وتفاعلها في ما بينها كنسيج متكامل ومتداخل متفاعل، ضلت هذه المكونات في قطيعة تامة مع المجتمع مواصلة القطيعة القديمة التي ميزت وطبعت العلاقة بين الخاصة والعامة لا في بلادنا فحسب ولكن في اغلب البلدان العربية، عاشت فيها المجتمعات والنخب بمختلف توجهاتها ظهرا لظهر وفي تجاهل تام، يسود علاقتها في ما بينها العنف الصامت أو الصاخب في شكل حملات عقابية بدعوى تأديب "المفسدين في الأرض والسوقة والرعاع". وكما كان الخلاف البورقيبي اليوسفي أيضا، تعلة لتغييب المجتمع عن مواقع القرار واعتباره قاصرا، سيتواصل هذا النهج على اثر المحاولة الانقلابية سنة 1962 بالحد من حرية الصحافة والتنظيم السياسي بمنع الحزب الشيوعي التونسي. ولعل خاصية عشرية الستينات كانت التضييق التام على كل ما هو مختلف وغير " منسجم" ومنضبط مع توجهات الحزب الواحد والفكر الواحد والرأي الواحد. في هذا الرحم الغير متوازن، وفي العلاقة معه، ستنشأ اغلب مكونات ما سينعت بثقافة السبعينات، والتي نعتها بالعرجاء لعدم توافقها فيما بين مكوناتها، وتواصل قطيعتها مع المجتمع، وتجاهلها التام لمكوناته التراثية المختلفة والمتنوعة، وعدم استشرافها لما يهز العالم من متغيرات هائلة. فكانت في اغلبها تتحرك في تجاهل لما يحدث حولها وقبلها وبجانبها تستمد كيانها وشرعيتها من الدولة وتاتمر بأوامرها او تحيا بما تمن بها عليها لمواصلة بقائها في حالة "حياة سريرية"